الجزائر

سماء صافية °C 22

توريد القمح … لماذا غيّرت الجزائر إستراتيجيتها مع فرنسا (خبير)

إنتاج وتجميع محصول القمح الروسي الصورة: (ح/م)
تحجيم استيراد القمح الفرنسي و التوجه نحو الشريك الروسي

تواصل الجزائر إعادة تشكيل استراتيجيتها في استيراد القمح. في خطوة تعكس تحولًا كبيرًا في توجهاتها الاقتصادية والسياسية. فقد قررت السلطات الجزائرية تحجيم واردات القمح الفرنسي، التي كانت تعتمد عليها تاريخيًا. والتوجه نحو القمح الروسي والحبوب المستوردة من منطقة الأورال، ما أثار اهتمام الأوساط الاقتصادية والدبلوماسية.

القمح الفرنسي
القمح الفرنسي

هذا القرار يأتي في ظل تصاعد التوترات السياسية بين الجزائر وفرنسا، ويدخل ضمن إطار سيادي يهدف إلى تنويع الشراكات التجارية وتقليل الاعتماد على شركاء تقليديين، مع تعزيز الأمن الغذائي الوطني واستقطاب استثمارات جديدة في القطاع الفلاحي.

ترسم هذه الأزمة معالم جيدة لتوريد الجزائر للقمح من مختلف الدول، وقد تعزز هذه الخطوة هيمنة إمدادات البحر الأسود بقيادة القمح الروسي على سوق استيراد الجزائر للقمح.

ويرى الخبير الإقتصادي هواري تيغرسي في تصريحه لـــ تادامسا نيوز أن :” الجزائر باتت من أكثر الدول المنتجة للحبوب. كما ان تواتر العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا انعكس على مجال تحجيم وتقليص استيراد الحبوب من هذا البلد. وهو قرار سيادي يندرج في إطار تنويع الشركاء والمستثمرين وكل المعاملات التجارية “.

كما أضاف المتحدث ذاته أن :” هذه الخطوة تدخل ضمن تخفيض العبىء على كثير الدول. كون الأسواق الدولية بات أثرها كبير على السياسات الاقتصادية وكذا توفير المنتجات ، والجزائر لا ترغب في ارتكاب الأخطاء في المراحل القادمة. ومنه تنويع الشركاء بات أمرا مهما والتركيز على أن يكون هؤلاء الشركاء سياسيين وهو مبدأ أساسي للمنظومة الاقتصادية في الجزائر “.

و شدد الخبير الاقتصادي على أن :” روسيا على غرار الكثير من الدول تعد شريكا مهما للغاية وموثوق. كما أن العلاقات السياسية المتينة يمكن ان تتبلور وتتعزز بشراكات اقتصادية. ومنه فقرار توريد القمح من روسيا يقوم على خلفية نوعية المنتجات وهو ما تحرص عليه الجزائر أيضا “.

من جانبه أبرز تيغرسي أن :” الجزائر تفكر في المراحل القادمة كيفية تفعيل شراكات اقتصادية في المجال الفلاحي. لكن بالمقابل تقف على كيفية الحفاظ على الامن الغذائي. من خلال استثمارات وطنية في القطاع الخاص وكذا الاستثمارات الاستراتيجية في الجنوب الكبير لكل المنتجات الأساسية سواء القمح، الذرة والنباتات الزيتية. وحتى قصب السكري. فهناك شراكات مهمة جدا، بالمقابل لم نر شراكات مهمة مع فرنسا في هذا الإطار”.

وختم البرلماني السابق بالتأكيد على أن :” الجزائر تعتمد على مقاربة سياسية لتفعيلها ضمن الشراكات الاقتصادية مستقبلا وتطوير الاستثمار واللعب على وتر الإمكانيات الكبيرة التي تملكها لاستقطاب المؤسسات الأجنبية للاستثمار في الجزائر ، بوجود المناخ المناسب للاستثمار “.

الجدير بالذكر  يعتبر الكثير من المتابعين للشأن الاقتصادي قرار الجزائر يبقى سياديا. كما أن تنويع الشراكات يزيد من فرص الاستثمار أكثر فأكثر سواء في القمح أو الذرة وغيره. ويفتح الآفاق أمام تعزيز التبادل التجاري. خصوصا وأن الجزائر كما أكد رئيس  الجمهورية عبد لمجيد تبون تعمل على  جعل السنة الجارية اقتصادية بامتياز.

هذا و قد شهدت صادرات القمح الفرنسي إلى الجزائر توقفًا تامًا خلال الفترة الأخيرة، في ظل تصاعد التوترات السياسية بين البلدين. ما شكّل ضربة كبيرة للتجارة الزراعية الفرنسية. الجزائر، التي كانت تاريخيًا واحدة من أبرز وجهات القمح الفرنسي. باتت تعتمد بشكل رئيسي على الحبوب المستوردة من منطقة الأورال، وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “لوموند” الفرنسية.

هواري-تيغرسي
هواري-تيغرسي
تحوّل إلى القمح الروسي

تعتبر الجزائر من بين أكبر الدول المستوردة للقمح في العالم، في مقدمتها القمح اللين. وتعد فرنسا من بين ممونيها الرئيسيين. وتتعامل الجزائر لتوفير الكميات المطلوبة من القمح مع 20 دولة، بقيمة واردات تتجاوز 2 مليار دولار سنوياً، في مقدمتها فرنسا، بالإضافة إلى روسيا وبولونيا وألمانيا وأوكرانيا والولايات المتحدة وكندا والأرجنتين.

قالت تقارير روسية، إنّ “القمح الروسي أضعف النفوذ الفرنسي في الجزائر. وهذا بعدما أضحى القمح الروسي يزاحم نظيره الفرنسي والأوروبي، ويستحوذ على معظم مشتريات الجزائر من هذه المادة”.

وبعد عقود طويلة من هيمنة القمح الفرنسي على معظم مشتريات الجزائر من هذه الحبوب. كشف إدوارد زيرنين، رئيس اتحاد مصدري الحبوب الروسي وجود ارتفاع كبير في مشتريات الجزائر من القمح الروسي، مع توقعات تصل إلى 2.5 مليون طن بحلول نهاية حملة 2023/2024 في يونيو المنصرم. وفقًا لوكالة “إنترفاكس” الروسية.

ومؤخرًا، قال تقرير نشرته “أرغوس ميديا” الفرنسية أن “الجزائر التي كانت لسنوات الوجهة الأولى لصادرات القمح الفرنسي، باستحواذه على حصة 53% من من إجمالي الصادرات الفرنسية خارج الاتحاد الأوروبي عام 2017، تراجعت هذه النسبة بشكل كبير لتصل إلى 18% فقط خلال عامي 2023 و2024.

القطيعة ..

مع انطلاق موسم الحصاد لعام 2024، يبدو أن الوضع أصبح أكثر تعقيدًا، إذ يؤكد بونوا بيترمان، رئيس مجلس الحبوب الفرنسي. أن الجزائر لم تستورد أي كميات من القمح الفرنسي حتى الآن. ويرجع ذلك إلى “تجميد العلاقات التجارية” بين البلدين نتيجة الخلافات السياسية التي أثرت سلبًا على التجارة الثنائية.

كما يشير التقرير إلى أن القطيعة الحالية تمثل خسارة كبيرة للاقتصاد الفرنسي. خاصة أن الجزائر كانت تُعتبر سوقًا استراتيجيًا لصادرات القمح. ومع توقف السفن الفرنسية عن التوجه نحو الموانئ الجزائرية، تبقى السوق الجزائرية مفتوحة أمام القمح الروسي الذي اكتسب حصة سوقية كبيرة في السنوات الأخيرة، مستفيدًا من العلاقات القوية بين الجزائر وروسيا.

وتحتل الجزائر المرتبة الثانية عالمياً بعد مصر في استيراد القمح، وتبلغ نسبة الاستهلاك الفردي سنوياً نحو 100 كيلوغرام، وهو ضعف النسبة في الاتحاد الأوروبي، وثلاثة أضعاف في باقي دول العالم، وتستقطب منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط ثلث مشتريات القمح عالمياً.

وتستورد الجزائر نحو 7.7 مليون طن من القمح سنوياً، ما يجعلها رابع أكبر مستورد للمادة في العالم. بعد مصر 12.1 مليون طن، وإندونيسيا 10.4 مليون طن، تركيا 8.1 مليون طن. ولكنها تعتمد على مصادر تموين متنوعة، منها القمح الفرنسي، والأمريكي، والروسي وغيره.

قلق فرنسي

تشير البيانات الصادرة عن هيئة FranceAgriMer، التابعة لوزارة الزراعة الفرنسية. إلى أن السوق الجزائرية التي كانت تاريخيًا وجهة رئيسية للقمح الفرنسي باتت شبه مغلقة أمام المنتجات الفرنسية. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل. أبرزها التوترات الدبلوماسية بين البلدين التي أثرت سلبًا على التعاون التجاري. بالإضافة إلى ذلك، أسهمت المنافسة المتزايدة من دول منتجة أخرى. خاصة بعد موسم حصاد ضعيف في فرنسا عام 2016، في فقدان القمح الفرنسي مكانته في السوق الجزائرية.

رغم أن المصدرين الفرنسيين يستمرون في تقديم عروضهم للسوق الجزائرية. إلا أن الجزائر لم تقم بأي عمليات شراء للقمح الفرنسي خلال الأشهر الأخيرة. وقد دفع هذا التوجه الجزائر إلى تعزيز سياسة تنويع مصادر الحبوب لضمان أمنها الغذائي. في هذا السياق، أعلن الأمين العام للديوان الجزائري المهني للحبوب، ناصر الدين مسعودي، في عام 2022، في تصريح نقلته وكالة الانباء الجزائرية أن الجزائر رفعت عدد مورديها من 22 إلى 32. ما يعكس استراتيجية واضحة لتوسيع قاعدة التوريد وتقليل الاعتماد على مصدر واحد.

وفي خضم هذا التوتر التجاري، زعمت تقارير إعلامية أوروبية أن القمح الفرنسي تم استبعاده من مناقصات جزائرية، وهو ما نفته OAIC بشكل قاطع، مؤكدة أن هذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة. هذه الردود تعكس محاولة الجزائر الحفاظ على استقلالية قراراتها التجارية مع التركيز على تأمين احتياجاتها من مصادر متعددة.

التراجع في الصادرات الفرنسية إلى الجزائر ليس مجرد خسارة سوقية. بل يحمل تداعيات اقتصادية كبيرة على فرنسا. وفقًا للجمعية العامة لمنتجي القمح في فرنسا، انخفضت صادرات الحبوب الفرنسية إلى 9.7 مليون طن فقط، مقارنة بالمعدلات المعتادة التي تتراوح بين 15 و16 مليون طن. هذا الانخفاض أثر بشكل واضح على إيرادات فرنسا من صادرات الحبوب، التي بلغت 11 مليار يورو في عام 2022، لكنها انخفضت إلى 6.5 مليار يورو في العام التالي، مع توقعات بمزيد من التراجع في عام 2024.

تواجه فرنسا أيضًا تحديًا إضافيًا يتمثل في المنافسة القوية من القمح الأوكراني الذي بدأ يغزو الأسواق الأوروبية والدولية بأسعار منخفضة. وقد دفع ذلك الجمعية العامة لمنتجي القمح إلى المطالبة بإعادة فرض رسوم جمركية على الواردات الأوكرانية لحماية المنتجين الفرنسيين من الخسائر المتزايدة.

التراجع الكبير في صادرات القمح الفرنسي إلى الجزائر، التي كانت تاريخيًا واحدة من أكبر الأسواق، يعكس تحديات مزدوجة تتمثل في فقدان الحصة السوقية والمنافسة الدولية الشديدة. في ظل استمرار الجزائر في تنويع مصادرها واعتماد استراتيجيات جديدة لضمان أمنها الغذائي، تبدو فرنسا مضطرة لإعادة النظر في سياساتها.

أترك تعليق