الجزائر

غيوم متناثرة °C 28

يناير .. الإرتباط بالأرض!

رأس السنة الأمازيغية

يناير .. لا علاقة له لا بالوثنية، ولا بالشرك، و لا بالفولكلور .. فقد كان موعدا لتجديد أدوات العيش و رمزا لإشراقة الأمل والتناغم مع خيرات الأرض وغيث السماء، التجديد السنوي لنمط من المعيشة كان يحياها آباؤنا وأجدادنا، قبل أن تغزو حياتنا مظاهر “المدنية” وتقتلعنا إقتلاعنا من ذواتنا وتنتزع منا إرثنا الزاخر المفاخر.

في مثل هذه المناسبة يهزّني الحنين إلى طفولتي في بادية دوّار المحمل، حيث في صبيحة “ينّاير .. إيخف نوسڨاس آثرار” يتم تغيير إنيان (الأحجار الصلدة الثلاثة التي توضع تحت الطاجين، والأواني الفخارية والطينية لطهي الطعام)، و أفركان (الذراع التي يتم بها تحريك الجمر في موقد النار بين “إنيان”)، و”إيْمْسَّنْدا (الحوامل الخشبية الثلاثة لشكوة الحليب)، كمّا يتم تبييض (تجيير) عتبة الدار، وتغيير أواني المنزل (هاربوث، آمدوحث، إغنجايين، ..) التي تكون ربّة البيت قد أعدّت الجديد منها من أجود أنواع الصلصال.

يشدني الحنين لطعام البادية، وللذة أكلاتها، أكلة “الزيراوي” و”البطاطي” والمرمز والشخشوخة والكسكس، وأشهى أنواع الجبن الطازج “آذغس”.

في رأس السنة الأمازيغية، يسافر بي التذكار إلى ذكريات الطفولة الجميلة في باديتنا التي أحنّ إليها، حيث أجد فيها “العبق المعتّق” لحياة الجزائري المتشبث بالأرض، وأصالة حرائر الجزائر، وهن يرفلنا في زينة الحلي التقليدية، حيث “الخلالة” التي لا تفارق لباس أمهاتنا وجدّاتنا.

[هاخلالث نوزرف، ..آزرفث = الفضة، ومنها جاء إسم “زرفة” .. ذا اللّحاف، ذا الجبين نوزْرف ..]

الخلالة” رمز الخِلال النبيلة والحياة التي يسري فيها التفاؤل رغم ظروف المعيشة الصعبة، لكنها “البادية” أو الدّاور” حيث الحياة الكريمة التي تنضح كرما ونبلا مختزنة.

في بادية المحمل، وفي دوّار “أولاد الغوار”، حيث عايشت في طفولتي المعنى الحقيقي لـ “الإقتصاد العائلي” و “الاقتصاد الأسري” وشهدت الأهمية المركزية للنشاط الأسري ضمن دائرة الاقتصاد المحلي التشاركي، هذا النموذج الرائع الذي قام عليه المجتمع الجزائري المتجذر في هذا الأرض الطيبة الطهور، الذي جسّدت فيه الأسر الجزائرية الاقتصاد الحقيقي المتناغم مع الطبيعية والصديق للبيئة وحققت من خلال تجلياته النبيلة حقيقية الإقتصاد الأخضر والدائري و”الإقتصاد التدوري”، فلا شيء يرمى، فكل شيء يُستعاد ويتم تحويله إلى منتوج وإلى “قيمة” تستعمل ويُستفاد منها، فحتى قرون الثيران والخرفان يحتفظ بها وتتم معالجتها واستخدامها كحافظات طبيعية للمراهم ومدقوق الأعشاب، وحتى كعلب رجالية فاخرة ل”الشمة”.

كانت العائلة الشاوية في باديتنا ودوّارنا تربي الدواجن والمواشي من أغنام وأبقار وماعز وحتى الجمال (لأنها في حالة سفر دوري نحو الصحراء، في رحلة الشتاء والصيف، و “يسفر” هو مصطلح قائم في حياة الرجل الشاوي، كدلالة عن حركة ملازمة لحياته ومعاشه).

فمن قطعان الماشية تستمد الأسرة جزء أساسي من عناصر الغذاء (الحليب والألبان والأجبان الطازجة والمجففة)، كما كانت البيوت لا تخلو من اللحم (الطازج المذبوح في الحين لإكرام الضيوف) أو المجفف والمقدّد، وكان إستخدام “البطاطا” في معيشتنا أمر نادر، وهي التي أصبحت اليوم مادة أساسية في معيشتنا كأسر، ومن أوبار وصوف قطعان الماشية كانت الأسر تصنع مختلف الملبوسات (القشابية، والبرنوس، واللحاف، ..)، ومختلف المفروشات (الحنبل، والزربية، والمخدّات، والبُسُطٌ، والسُّجاد مما يُفرش أو يعلّق، ومختلف الأفرشة والوسادات مما يُستعمل على الدوام أو للزينه أو للمناسبات العائلية والأفراح)، أو لصناعة الخيم العائلية وكل مستلزماتها (من ڨنطاس، و جوانح، ..)، وكانت جلودها تستخدم “شكوة” لتحضير اللّبن أو لحفظه أو ك”ڨربة” للماء، أو سُجّادا و فُرَشًا، أو “مثنينة” للحصاد، وحافظات جسدية أو جلدية، أو سرجا للخيول والدواب.

كما كانت المرأة الشاوية تتفنن في صناعة أدوات وأواني مطبخها بيدها من أجود أنواع الصلصال، الذي تجلبه بعناية، وتصنع له تنور النار، وتبدع في صناعة مختلف الأواني المنزلية، أشبه بالتحف الفنية، من “طَوَاجِنُ (جمع كلمة طاجين)” و “إمدوحين (جمع أمدوحث)”، و “غراف”، و “آغنحاي أمقران و إغنجايين”، حتى “الرحى” كانت تُصنع من الحجارة الصلدة من قبل فنيي المجتمع المحلي.

كانت الأسرة الشاوية تعيش مما تمتهنه أيديها والمستخرج من محيطها المباشر، هكذا كانت حياتنا وحياة أسرنا، وهكذا عشنا “الإقتصاد العائلي” و”البيئي” و”التدويري” والاقتصاد الذي يتصف بـ “صفر” نفايات، لم يكن هذا الاقتصاد بالنسبة لنا إكتشاف اللحظة أو العصر، ولم نعرفه من بطون الكتب أو حواشي المنبهرين، بل هو اقتصاد عرفناه واقعا وعشناه في أسرنا، وشهدناه في طفولتنا، هو اقتصاد ورثناه عن أجدادنا الكرام، توارثته الأجيال عبر قرون، حقق من خلاله مجتمعنا القروي المحلي إكتفاءه الذاتي، وصنع من خلاله نشاطه ولبى إحتياجاته، في استقلالية متناغمة مع “الاقتصاد التشاركي” داخل المجتمع القروي المحلي.

حتى اللوحة (لوحة حفظ القرآن الكريم) وملحقاتها يتم إعداداها من مواد محليّة، فالأقلام كنّا نصنعها ونبريها من القصب، والحبر كنّا نعدّه من صوف الأغنام المحروق والمخلوط بقليل من الماء.

أعتقد بأنه حان الوقت للتصالح مع ذاتنا واستعادة انفسنا، والإعتزاز بهويتنا التي عُجِنت بكلّ نُبْلٍ في سيرورة حركية “المجتمع الجزائري” عبر العصور، بعيدًا عن التسطيح والأدلجة، ففي تاريخنا المتجذر في هذه الارض الطيبة منغرسة “مكامن” قوتنا و الفضائل النبيلة المختزنة في كياننا الإجتماعي.

ختامًا

يطيب لي القول :

آسڨاس ذمبروك، ذا مربوح فلّانا وأذٌ فلاكم وفلَهْلْنّا وفتمورثَنّا الجزائر.

بقلم: مهماه بوزيان

أترك تعليق